خالد المازيسي

حسابي الشخصي

الحمض النووي الخردة: تقديم

في بداية السبعينيات ظهرت مشكلة جديدة في علم الوراثة، حيث كان جينوم بعض الكائنات الأكثر تعقيدا من الناحية المورفولوجية (مثل الإنسان) أصغر بكثير من جينوم بعض الكائنات الأقل تعقيدا – بشكل نسبي – على المستوى المورفولوجي، فقد أدرك سوسومو أونو Susumu Ohno وهو عالم وراثة ياباني-أمريكي في بداية السبعينيات من القرن الماضي أن جينوم السلمندر وأسماك الرئة مثلا قد يكون أكبر من جينوم الإنسان 36 ضعفا، وقد علم نتيجة ذلك أن نسبة كبيرة جدا من جينوم بعض الكائنات الحية لا تشفر للبروتينات. وكان قد حدد سبب وجود هذه الكمية من الجينوم الغير مشفر للبروتينات بكميات كبيرة في كون النسخ الجينية التي تتكون بسبب التضاعف الجيني gene duplication قليلا ما تتطفر لتكتسب وظيفة جديدة، ولكن أغلبها يفلت من قبضة الإنتخاب الطبيعي فتتدهور بسبب تراكم الطفرات الى أن تفقد قدرتها على التشفير للبروتينات. وهذا ما جعله يخلص الى أن معظم جينوم الثدييات غير وظيفي، وقد عبر عن ذلك بقوله:
“الأرض مليئة ببقايا أحافير لأنواع منقرضة، فهل من الغريب أن يكون جينومنا ممتلئا أيضا ببقايا جينات منقرضة؟”
T. Ryan Gregory 2002. The Evolution of the Genome. Academic Press (2005).p 30
وهنا يتضح أن مفهوم الحمض النووي الخرد مبني على فقدان الجينات لوظيفتها الأصلية، وقد ناقش العلماء الذين أسسوا ونشروا هذا المفهوم مسألة ما إذا كان هذا الحمض النووي الخردة بحد ذاته يمتلك وظيفة (من نوع ما) أم لا؟ فقد قال كومينغ Comings عام 1972: “كون الشيئ خردة، لا يعني أنه بدون فائدة تماما”، حتى أونو Ohno نفسه (أول من استعمل مصطلح الحمض النووي الخردة) اقترح دورا للحمض النووي الغير مشفر للبروتينات أثناء عملية تكاثر الخلايا. وهذا يعني أن مصطلح “الخردة” لم يكن مقترنا مع غياب التشفير للبروتينات منذ أول ظهور له، ومن الواضح أنه يطلق على المحتوى الجيني الذي لا يتم نسخه أو ترجمته الى بروتينات، والذي لايلعب دورا محوريا في بقاء الكائن الحي.
De Harry Harris. Advances in Human Genetics, Volume 3. p 316
ولكن على الرغم من أن مفهوم الحمض النووي الخردة كان واضحا منذ بزوغه، إلا أن الناس انقسموا الى قسمين، القسم الأول يقول أن هذه السلسلة الطويلة من المادة الوراثية ليست “وظيفية”، والقسم الثاني يصر على أن بقاء هذا الكم الهائل من الحمض النووي لابد وأن له أهمية تكيفية، وإلا لما صمد أمام قوة الإنتخاب الطبيعي، وقد صاغه عالم الخلية الهندي شارما Sharma عام 1985 كما يلي :
The very fact that amplified sequences have been maintained, withstanding rigours of selection, indicates some adaptive significance
ويوافقهم الرأي المتدينون من العامة من الناس، فهم يرون أن الله لايمكن أن يخلق شيئا بدون فائدة، وهذا يتعارض مع فكرة الدقة والإحكام والإتقان في الصنع، لأنه لو تواجدت كمية هائلة جدا من الحمض النووي في جسم الإنسان ليست لها أي وظيفة فحسب، بل ومصدرا نشطا للأمراض الخطيرة التي تتسبب في وفات الاَلاف من الناس، فإن ذلك سيكون حجة قوية ضد الخلق المحكم والتصميم، وضد العديد من الصفات التي يسقطها المتديونون على الخالق في مختلف الديانات.
إذن هل الحمض النووي الخردة وظيفي أم غير وظيفي؟ وإذا كان وظيفيا، فلماذا يطلق عليه “خردة” ؟
لقد كان معروفا منذ أول ظهور لمفهوم Junk DNA أن المنطقة التي لاتشفر للبروتينات لها أدوار عديدة ومختلفة، حتى أن العلماء الأوائل ممن استخدموا هذا المفهوم قد اقترحوا أدوارا مختلفة لها، ونذكر منها:
– يمكن أن يلعب دورا ههما في التنظيم الجيني
– يمكن أن يلعب دورا مهما في تسهيل عملية التوليف الجيني
– يمكن أن يؤثر على التعبير الجيني
– يمكنه الحفاض على بنية الكروموسوم وسلوكه
وهناك العديد من الأدوار المهمة التي يلعبها الحمض النووي الغير مشفر للبروتينات داخل الجينوم، والتي كانت معروفة منذ زمن بعيد، ومؤخرا ظهرت العديد من المشاريع التي تهدف الى الكشف عن الأدوار الأخرى المهمة لهذه المنطقة الشاسعة، وقد نجح بعضها بالفعل (مشروع ENCODE مثلا). لماذا إذن لا يزال بعض العلماء متحفظون من القول بأن لهذا الحمض النووي الخردة وظيفة عامة ويسحبوا كلمة “خردة” عند تسميتهم له ؟ هل كلمة “خردة” تطلق على كل تسلسل لا يشفر للبروتينات؟ لماذا سمي بالخردة أساسا لو كان من سموه أنفسهم يعلمون بوجود دور له؟ بل وتجدهم في دراساتهم يسمونه بعدة أسماء تبين عدم وجود أي فائدة له. مثل: خردة، زائد، لاوظيفي …؟ الأجوبة على هذه الأسئلة سنستعرضها بالتفصيل في المقالات القادمة من هذه السلسلة.

One Response

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *