يتكون الجينوم البشري من حوالي 20500 جين قادر على التشفير للبروتينات (هناك دراسات تقترح وجود عدد أقل) ولا تنشط هذه الجينات جميعها في كل الخلايا، فبعضها ينشط في خلايا معينة وأخرى تنشط في خلايا جسمية أخرى، وتعتمد الخلايا على عملية التنظيم الجيني لتحديد الجينات التي يجب أن تكون نشطة بداخلها، الشيئ الذي يحدد هوية الخلية هل هي خلية عصبية أم عضلية أم كبدية … ما يعني أن التنظيم الجيني هو الذي يتحكم في التعبير الجيني داخل الخلية، وتتم هذه العملية على عدة مستويات الشيئ الذي جعل فهمها بشكل كامل أمر صعب. وبتعبير أبسط فالتسلسل التنظيمي هو قطعة من الحمض النووي تعمل على تنشيط الجينات الوظيفية (التي تشفر للبروتينات) أو تثبطها.
كان سوسومو أونو أول من حاول التفصيل في مفهوم “الحمض النووي الخردة” في بداية السبعينيات من القرن الماضي، وقد كان هو نفسه لم يعتبر كل جزء غير مشفر للبروتينات في الحمض النووي خردة، فقد اقترح نفسه عدة وظائف يمكن أن نجدها في المناطق الغير مشفرة للبروتينات داخل الجينوم، وكانت احداها أن حوالي 6% من جينوم الإنسان يمكن أن يلعب دور التنظيم والتحكم في تعبير الجينات الوظيفية (المصدر 1)، ولذلك فإن كل المقالات التي نصادفها في صفحات ومواقع الخلقيين والتي تتحدث عن اكتشاف الجينات التنظيمية وعرضها للناس على أنها بيانات تنسف فكرة الحمض النووي الخردة لهي مجرد جعجعة لا طائل منها، فقد كان من المعروف منذ بزوغ مفهوم الخردة أن جزء لابأس به من الحمض النووي يلعب دور التسلسلات التنظيمية للجينات الوظيفية.
ففي دراسة نشرت عام 2014 قام الباحثون بدراسة جينوم الانسان ومقارنته بجينوم بعض الثدييات ليخلصوا الى بيانات تفيد أن 8.2% من جينوم الإنسان محفوظ تطوريا، أي أنه يمتلك تأثيرا منتخبا ووظيفة بيولوجية لا يمكن للإنسان أن يبقى بدونها (المصدر 2)، وقد علقت موسوعة البيولوجيا التطورية (المصدر 3) على هذه الورقة بقولها أن 1.2% من جينوم الانسان وظيفته التشفير للبروتينات، أما 7% المتبقية فتمثل المناطق التي تنظم التعبير الجيني عند الإنسان، وهذا يتضمن الجينات الزائفة والينقولات والفيروسات القهقرية وكل التكرارات الجينية في الحمض النووي الغير مشفر للبروتينات التي اكتسبت وظيفة جديدة عن طريق الخيار المشترك co-option.
وحتى لو كان تعليق موسوعة البيولوجيا التطورية صحيحا وأن 7% من جينوم الانسان مخصص لأداء وظيفة التنظيم، فإن هذا كثير جدا جدا مقارنة بما نعلمه اليوم عن نسبة التسلسلات التنظيمية في الجينوم، لأنه وفقا لهذه النسبة فإن الجينوم يحتوي على 220 مليون زوج من القواعد النيتروجينية تقريبا خاصة بالتنظيم الجيني، وهذا يعني أن كل جين يجب أن يتوفر في المتوسط على أكثر من 10 ألاف نيوكليوتيد وهذا عدد مهول مقارنة بما اكتشفناه من تسلسلات تنظيمية، فحتى لو أخدنا النسبة التي جاءت بها دراسة نشرت على نيتشر عام 2001 (المصدر 4) والتي تقول أن نسبة التسلسلات المسؤولة عن التنظيم الجيني تقدر ب2% فقط، فإن هذه النسبة تخبرنا بأننا ربما سنكتشف المزيد والمزيد من هذه التسلسلات وتحديد دورها وفهمها بشكل دقيق (وهذا ما ساعدنا به مشروع ENCODE) ولكن لايعني إطلاقا أن الحمض النووي بأكمله وظيفي، لأن هذه النسب المدكورة أعلاه لا تزال كبيرة جدا مقارنة بما نعلمه عن التسلسلات التنظيمية في الجينوم البشري.
المصادر
Ohno S. So much “junk” DNA in our genome. Brookhaven Symp Biol. 1972;23:366–370
ENCYCLOPEDIA OF EVOLUTIONARY BIOLOGY. M. Noncoding DNA Evolution: Junk DNA Revisited. P 126