في البيولوجيا التطورية يعتبر الجينوم نتاج ملايين السنين من التطور، ولذلك فإنه سيتوفر بجانب المناطق الوظيفية على مناطق تعتبر إرثا تطوريا من الماضي البعيد لكل نوع، ومن أجل تحديد الجزء الوظيفي من الجزء الغير وظيفي (الحمض النووي الخردة) فيجب علينا أولا توضيح معنى “الوظيفة” لكي يسعنا حينها تحديد ما إذا كان تسلسل ما في الحمض النووي وظيفيا أم خردة، ومفهوم الوظيفة في البيولوجيا مختلف جدا عن معناه في السياق المستعمل في ميادين أخرى علمية وغير علمية، في البيولوجا تحمل “الوظيفة” مفهومان أساسيان: مفهوم “التأثير المنتخب” selected effect ومفهوم “الدور السببي” causal role .
فيما يتعلق بالتأثير المنتخب، فإن أي قطعة من الحمض النووي او أي سمة أخرى متعلقة بالكائن الحي (لنسميها T) تكون لها وظيفة بيولوجية معينة (لنسميها F) إذا وفقط إذا تحقق شرطين أساسين: الأول، أن تكون هذه السمة هي نسخة من سمة قديمة كانت لها نفس الوظيفة F أو كانت لها وظيفة مختلفة F1، والتاني: هو أن تكون هذه السمة T وجدت من أجل أداء هذه الوظيفة البيولوجية، ولذلك فإن وظيفة التأثير المنتخب لسمة معينة T، هي التأثير الذي تم إنتخابها من أجله، وتم الإبقاء عليها لأجل هذا التأتير، وبعبارة أخرى فإن هذه الوظيفة هي التي تجيبنا عن السؤال التالي: لماذا وجدت السمة T؟
أما فيما يتعلق بوظيفة “الدور السببي” فيكفي أن تقوم السمة T بأداء دور R بغض النظر عن سبب ما إذا كانت T قد وجدت لأداء الدور R، وبالتالي فإن هذا المفهوم للوظيفة يجيبنا فقط عن السؤال: ماذا تفعل السمة T ؟
ولنفهم الفرق بين المفهومين دعونا نستعين بمثال حي من الجينوم، لنأخد التسلسل التالي TATAAA وهو تسلسل وجد من أجل ربط عوامل النسخ بالحمض النووي من أجل مباشرة الRNA بوليميراز في نسخه، ولذلك فإن لهذا التسلسل وظيفة “التأثير المنتخب”، أي أنه وجد لأداء وظيفة ارتباط عوامل النسخ به. ولكن لأن الحمض النووي يتكون من مليارات النيوكيوتيدات فإنه من المحتمل أن ينشأ تسلسل مماثل ل TATAAA عن طريق طفرة نقطية، وذلك سيجعل عوامل النسخ ترتبط بها، وبالتالي فإن التسلسل الذي نشأ عن طريق الطفرة ليست له وظيفة تأثير منتخب، ولكن لديه وظيفة دور سببي، وهي ارتباط عوامل النسخ به.
ولنفهم الفرق بين بشكل جيد، دعونا نأخد مثالا بسيطا جدا وهو القلب، فتأثيره المنتخب هو ضخ الدم في كل أنحاء الجسد، وبدونه فإن الكائن الحي سيموت، ولذلك فإن القلب قد تم انتخابه طبيعيا لأداء هذه الوظيفة، وهو موجود لأداء هذه الوظيفة، ولكن للقلب دور سببي كذلك، كإحداث الأصوات (دقات القلب) على سبيل المثال، والأطباء يستفيدون كثيرا من هذا الدور السببي في تشخيصاتهم الطبية، ولكن رغم ذلك، فالقلب لم يوجد لأداء هذا الدور السببي. وكما ذكرنا سابقا فإن الدور السببي يجب عن سؤال (ماذا تفعل السمة T ؟) في هذه الحالة فإن صوت دقات القلب هو دور سببي ناتج عن حركة القلب. ويمكن تعميم هذا المفهوم للوظيفة في البيولوجيا والقول بأن كل سمة في جسم الكائن الحي لها دور سببي، فكل نيكليوتيد في الحمض النووي يتم نسخه وهذا بحد ذاته دور سببي، ولكن هل من المعقول القول بأن هذا النيوكليوتيك وجد لكي يتم نسخه؟ بالطبع لا، فمفهوم التأثير المنتخب للوظيفة يطلق على السمات التي وجدت لغرض أداء وظيفة معينة، فالجينات التي تشفر للهيموغلوبين وجدت للترميز للهيموغلوبين وقد تم انتخابها لأداء هذه الوظيفة.
من الواضح الاَن أن وظيفة التأثير المنتخب تعتبر أكثر أهمية من الدور السببي الغير وظيفي وهي التي تجعل الكائنات الحية على ماهي عليه، وكل تأثير منتخب يكون له أدوار سببية، ولكن كل دور سببي ليس له تأثير منتخب (في أغلب الأحيان)، ولذلك فإن علماء البيولوجيا غالبا ما يطلقون على الدور السببي اسم “نشاط” أو “تأثير”، وهذا ما سنفعله نحن كذلك في المستقبل، فكل دور سببي سنسميه “نشاط” وكل تأثير منتخب سنسميه “وظيفة بيولوجية”.
التفريق بين الدور السببي الذي لايؤثر على الكائن الحي والتأثير المنتخب الذي يحدد الوظائف البيولوجية للكائن هو أمر مهم جدا، سيساعدنا في فهم الخطأ الذي ارتكبه القائمون على مشروع ENCODE (راجع المقال السابق من هذه السلسلة) عند اعتبارهم النشاطات الكيميائية للحمض النووي الخردة “وظيفة”، فهذه النشاطات في الأخير ليس لها أي تأثير منتخب على الكائن الحي، وسنفصل في هذه المسألة في المقالات القادمة من هذه السلسلة.
هذه دراستين علمييتين من عام 2017 تنتقدان تفسيرات القائمون على مشروع ENCODE بشكل حاد وتبينان معنى الوظيفة بالتفصيل، كما تؤكدان في الأخير أن معظم جينوم الإنسان لا يزال خردة، وجزء قليل منه (8% تقريبا) فقط من يمتلك تأثيرا منتخبا على الإنسان. وسوف نعرض المزيد والمزيد من الدراسات العلمية في المقالات القادمة.
شرح أكثر تفصيلا لعنى الوظيفة في البيولوجيا
One Response