حينما نشر القائمون على مشروع ENCODE نتائجهم في شتنبر من عام 2012 انتشر الخبر في أرجاء العالم عبر المواقع الصحفية وبعض المجلات العلمية المرموقة وكذلك بعض الكتاب العلمين عبر مدوناتهم ومنشوراتهم. وكانت العناوين مثيرة جدا، حيث تناول معظمها نهاية قصة الحمض النووي الخردة JUNK DNA و أن حوالي 80% من جينوم الإنسان وظيفي بالكامل، عكس الإعتقادات السابقة التي تزعم أن معظم جينوم الإنسان غير وظيفي، وأخد الخلقيين هذا الخبر بحماس وروجوا له ترويجا عظيما، مدعين أن “خرافة” من خرافات التطوريين قد سقطت. وحتى الاَن لو تصفحت مدونات وحسابات الخلقيين ستجدهم يروجون لأبحاث مشروع ENCODE في كل منشور من منشوراتهم.
مشروع ENCODE هو مشروع ضخم للغاية أسسه المعهد الوطني لأبحاث الجينوم البشري في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2003، والهدف منه (كما يتم الترويج له) هو ايجاد وظيفة كل تسلسل في الحمض النووي البشري، وقد أعلن عام 2012 كما سبق وذكرنا عن أن 80% من جينومنا وظيفي، وتكمن معظم هذه الوظائف في العملية التنظيمية للجينات. وهذا ما عبرت عنه العديد من الجهات الأكاديمية والكتاب العلميين.
لكن من خلال قراءة الأوراق التي نشروها عام 2012 بالإضافة الى مقال علمي نشرعام 2014 تحت عنوان “تحديد عناصر الDNA الوظيفية في الجينوم البشري” حيث قالوا :” تغطي المناطق النشطة كيميائيًا جزءًا أكبر بكثير من الجينوم مقارنة بالمناطق المحفوظة تطوريًا، مما يثير التساؤل عما إذا كانت المناطق غير المحفوظة ولكن النشطة كيميائيًا وظيفية حقًا. هنا، نراجع نقاط القوة والقيود الخاصة بالنهج البيوكيميائية والتطورية والجينية لتحديد القطع الوظيفية في الحمض النووي” يتضح أن القائمون على أبحاث ENCODE يعتبرون الوظيفة البيوكيميائية هي المعيار الذي يعتمدون عليه لتعريف “وظيفة” الحمض النووي بشكل عام. وكل منطقة في الجينوم تعرف نشاطا كيميائيا فإنها في نظرهم وظيفية.
وقد جاء ذلك بشكل أوضح في ورقة علمية نشرت عام 2014 حيث قال الباحثون فيها ما يلي:
“يجب تفسير ادعاء ENCODE المثير للجدل للوظيفة على أنه يشير إلى أن 80٪ من الجينوم يشارك في أنشطة بيو-كيميائية ومن المرجح أن يكون لها أدوار سببية في الظواهر التي تعتبر ذات صلة بالبحوث البيو-طبية” وهذا يوضح بشكل جلي أن القائمون على مشروع ENCODE يعتبرون النشاط الكيميائي الحيوي لمعظم مناطق الحمض النووي الغير مشفر للبروتينات وظيفة. ولا علاقة لدراساتهم بالوظيفة البيولوجية للحمض النووي الغير مشفر للبروتينات لا من بعيد ولا من قريب.
فنحن نعلم جيدا حتى قبل مشروع ENCODE أن جينوم الإنسان يتكون من مناطق مشفرة للبروتينات تمثل حوالي 1.2% من مجمل الجينوم، وكنا نعلم كذلك (كما رأينا في المقال السابق من هذه السلسلة) أن هناك مناطق في الجينوم الغير مشفر تساعد على تنظيم الجينات مثل المعززات والمحفزات promoters and enhancers وكان من المعروف أيضا أنه توجد عدة مقاطع من الحمض النووي الغير مشفر للبروتينات، تلعب أدوارا في تنظيم الجينات، وقد كانت وظيفة ENCODE هي البحث عن هذه المناطق في جينوم الإنسان. وكانت نتائجهم أنهم وجدوا الكثير من المناطق التي تلعب دورا تنظيميا، وكثيرا من المناطق التي يتم نسخها كذلك، وذلك لأنها تتفاعل بيو-كيميائيا مع البروتينات المرتبطة بالحمض النووي DNA Binding Proteins ، وهذا التفاعل هو ما أطلقت عليه ENCODE لقب “وظيفة” ومن تم تلقفته وسائل الإعلام، وأعلنوا عام 2012 أن الحمض النووي الخردة قد مات، وهم من قتلوه.
إذا فالمشكلة لم تكن في دراسات مشروع انكود ENCODE ولكن في تفسيرهم لنتائج دراساتهم، وذلك باعتبار الدور السببي لتسلسلات الحمض النووي وظيفة بيولوجيا، ولذلك تعرضت تفسيراتهم لانتقادات واسعة وحادة للغاية، لأن مفهوم الوظيفة في البيولوجيا محددة للغاية، الشيئ الذي لايجعل من ظاهرة ارتباط البروتينات بالحمض النووي ونسخه وظيفة بيولوجية على الإطلاق، وبذلك فإن النسبة 80% مضللة وغير دقيقة، وكما سوف نرى في المقالات القادمة بعد أن نشرح مفهوم الوظيفة في البيولوجيا، وسبب ارتباط بروتينات تحفز نسخ الحمض النووي بمناطق واسعة في الجينوم، فإن نسبة الحمض النووي الخردة في الجينوم تناهز 90%، وسنقدم كذلك عددا كبرا من الأدلة التي تدعم هذه النسبة.
One Response