يعتبر هذا المقال من أهم المقالات في هذه السلسلة، وسوف نحيل إليه كثيرا في المقالات القادمة، لذلك نأمل أي يقرأ بتأن، ونتمنى لكم قراءة ممتعة.
عند دراسة جينوم الكائنات الحية، فإن العلماء دائما ما يصادفون مفارقة تدعى بمفارقة قيمة سي C Value Paradox، وهي نتيجة لعدم توافق حجم الجينوم ومحتواه مع الكمية المفترضة للمعلومات الجينية التي يحتاجها الكائن الحي (تعقيد الكائن الحي)، بتعبير أبسط، فإن العلماء دائما ما يصادفون كائنات أقل تعقيدا تحمل حجم جينوم أكبر بكثير من كائنات أكثر تعقيد منها. ولكن كيف نقيس مدى تعقيد الكائن؟ أو كمية المعلومات الجينية التي يحتاجها؟
أبسط طريقة يمكن اعتمادها لقياس مدعى تعقيد الكائنات الحية هي عن طريق تحديد عدد الخلايا وعدد أنواع الخلايا التي يتكون منها الكائن الحي (المصدر 1)، ففي الكائنات حقيقيات النوى تعد وحيدات الخلية أكبر قسم منها على الأرض، وتتكون من خلية واحدة ونوع خلية واحد، أما في مملكة الحيوانات فتتباين أنواع الخلايا فيها من 4 الى 11 عند الصفيحيات Placozoa والإسفنجيات، وصولا الى 200 نوع من الخلايا عند الثدييات، أما عدد الخلايا في حقيقيات النوى فيتباين بين 1 في وحيدات الخلية الى 10 أس 12 في بعض الثدييات (المصدر 2 و 3). وقد رأينا في المقال السابق من هذه السلسلة أن قيمة C التي تعبر عن حجم الجينوم في الغاميت (مشيج) قد بلغت 1.5×10^11 bp، في نوع من النباتات تسمى باريس جابونيكا Paris japonica.
هناك العديد من الأدلة التي تشير الى أن مستوى التعقيد في الكائنات الحية غير مرتبط إطلاقا بحجم جنوماتها، فعلى سبيل المثال هناك العديد من الصفيحيات Placozoans وحيدات الخلية والتي تتكون من خلية واحدة ونوع واحد من الخلايا، تمتلك جينوما أكبر من جينوم الثدييات بالرغم من أن الثدييات تمتلك أزيد من 200 نوع من الخلايا بكميات منها تزيد عن 10 أس 12 خلية، وبالمثل فإن العديد من النباتات التي تمتلك عددا قليلا جدا من أنواع الخلايا، لديها جينوم أكبر من جنوم الثدييات بشكل مهول. هناك نوع من وحيدات الخلية يدعى Coscinodiscus asteromphalus يمتلك جينوم بحجم 25000 Mb بينما الإنسان العاقل يمتلك جينوما بحجم 3100 Mb فقط، لماذا يمتلك هذا الكائن البسيط وحيد الخلية كل هذا الكم من الجينوم إذن؟
مثال اَخر لنوع من الأميبا يدعى Amoeba dubia يحمل جينوما أكبر من جينوم الإنسان بحوالي 209 ضعف (المصدر 6). مثال اّخر على هذه المفارقة، هناك نوع من الطحالب وحيدة الخلية يدعى Gymnosporangium confusum يمتلك جينوما بحجم 893 Mb بينما ذبابة الفاكهة المعروفة Drosophila melanogaster تمتلك جنوما بحجم 180 Mb فقط. لماذا هذه المفارقة؟ هل تحتاج هذه الكائنات الصغيرة جدا والمكونة من خلية واحدة من نوع واحد من الخلايا كمية هائلة جدا من الجينوم لتقوم بوظائفها البسيطة، بينما الإنسان بكل الأنظمة البيولوجية والأجهزة المعقدة وتريليونات الخلايا من حوالي 200 نوع من الخلايا يحتاج ثمن 1/8 مما تحتاجه وحيدات الخلية؟ (المصدر 4)
ربما يعتقد البعض بأننا لا نمتلك بالضبط معيارا دقيقا لمعرفة مستوى تعقيد الكائنات الحية، ولذلك لن يسعنا القول بأن كائنا ما أعقد من الاَخر بناء على بنيته الخلوية، لكن هذا الإعتقاد يتلاشى عند مقارنة كائنات وحيدة الخلية مع الثدييات مثلا، فلا يمكن بأي شكل من الأشكال أن نقول بأن خلية واحدة أعقد من كائن يتكون من 200 نوع اَخر من الخلايا وبكميات تعد بالبليارات، ولكي ندق اَخر مسمار في نعش هذا الإعتقاد فإننا سنطرح بعض الأمثلة لكائنات قريبة جدا من بعضها البعض من الناحية التشريحية والمورفولوجية ولكنها تمتلك أحجاما مختلفة جدا في جنوماتها، فمن المفترض إذا أن كائنين قريبين جدا جدا من بعضها بحاجة الى نفس الحجم (تقريبا) من الجينوم ومن المعلومات الجينية لأداء وظائفها المتشابهة، ولكننا نجد أمثلة غريبة جدا تخالف هذه البداهة، فمثلا نوع من ذباب الفاكهة يدعى D. orena يمتلك جنوما ضعف جنوم أقرب الكائنات إليها على الإطلاق وهو نوع من ذباب الفاكهة يدعى D. erecta. (المصدر 5).
مثال اَخر يأتينا من جنس البراميسيومات Paramecium وهو جنس من شعبة الهوادب، فالنوع الذي يحمل الإسم العلمي P. aurelia يحمل جينوما بحجم 190000 Kb بينما أقرب الأنواع إليه والذي يحمل الإسم العلمي P. caudatum يحمل جينوما بحجم 8600000 Kb. أي أن النوع الأول يؤدي وظائفه البيولوجية بشكل عادي بينما النوع الثاني والذي يعد أقرب أقربائه من حيت البينية البيولوجية هو بحاجة الى جينوم أكبر ب45 ضعفا من النوع الأول (المصدر 6). إن هذه الأمثلة التي قدمتها تعد من أقوى الأدلة على مفارقة قيمة C C Value Paradox، والتي تؤكد على أن معضم جينوم بعض الكائنات الحية خردة لا يمتلك وظيفة بيولوجية، فلتفسير الفرق بين جينومين كل من أنواع البراميسيومات التي ذكرناها، يجيب على P. caudatum أن يحمل كما هائلا من الحمض النووي الخردة والزائد، لأن أقرب أقربائه يحتاج 1/45 فقط من هذه الكمية لأدء نفس الوظائف البيولوجية.
المصادر
Kaufman SA (1971) Gene regulation networks: a theory for their global structures and behaviours. In: Moscona AA, Monroy A (eds) Current topics in developmental biology. Academic, New York, pp 145–182
Srivastava M et al (2008) The Trichoplax genome and the nature of placozoans. Nature 454:955–960
Goldberg WM (2013) The biology of reefs and reef organisms. University of Chicago Press, Chicago
Naruya Saitu . Evolution of the Human Genome I The Genome and Genes. P 26
One Response