كثيرا ما نسمع من الخلقيين بأن الطفرات ضارة ومدمرة دائما، ولا تنتج أي معلومات وراثية جديدة، ويحتجون بذلك على أن التطور لا يمكنه إنتاج بروتينات جديدة وبالتالي فهو عاجز عن إحداث أي تطور أو تغير في الكائنات الحية، بالرغم من أن هذا الإدعاء يبدو سخيفا وسطحيا ولا يصدر من شخص مطلع وحيادي علميا، إلا أننا سنحاول تسليط الضوء عليه في هذا المنشور المختصر.
في البداية قبل أن ننظر لهذا الموضوع من زاوية التطور، أود أن أعرف كيف يفسر الخلقيين كون كل الطفرات الوراثية ضارة ومدمرة؟ أليسوا هم من يدعون أن الكائنات الحية مصممة بدقة وإحكام؟ لماذا إذا توجد طفرات ضارة وينقولات وفيروسات قهقرية داخل الجينوم؟ تسبب أمراضا وراثية خطيرة (كالسرطان)؟ وهذا لا يحدث في الإنسان فقط بل في كل الكائنات الحية؟ لماذا لم تصمم أنظمة الإصلاح في الخلية لتمنع حدوث الطفرات بشكل كلي؟ ولماذا لم يصمم الجينوم دون امكانية خضوعه لطفرات ضارة؟ ولماذا أنظمة الاصلاح نفسها تحدث أخطاء أثناء عملية تصحيحها للأخطاء؟ مثلا نظام NHEJ يقوم بإعادة دمج المناطق التي انفصل فيها الحمض النووي. وأثناء ذلك يقوم بإدراج قطع من الحمض النووي من مكان بعيد (مثل التيلوميرات) في المنطقة التي يقوم بإصلاحها. ما يجعلها منطقة غير مستقرة.
إذن فالطفرات الضارة التي تسبب الأمراض والسرطانات والتشوهات الجسدية والمتلازمات هي في الأساس ضد التصميم الذكي والخلقوية وليست في صالحه. نقطة أخرى تشغل بالي كثيرا. نجد العديد من الخلقيين يصدقون بالتكيف Adaptation، أود أن أعرف كيف يفسرون حدوث هذا التكيف؟ ما نوع الطفرات التي تسمح بحدوث التكيف في رأيهم لو أنهم يصدقون بأن كل الطفرات ضارة؟ وما الاَلية التي تسمح بانتشار هذه السمة التكيفية داخل كل أفراد المجموعة السكانية لو أنهم ينكرون الانتخاب الطبيعي؟
أما من زاوية التطور فالأمر مدروس بشكل دقيق وأجريت عشرات التجارب والملاحظات الميدانية، أثبتت عمل الانتخاب الطبيعي والطفرات العشوائية ووثقت ذلك مرارا وتكرارا، أنصح كل مهتم بقراءة كتاب جون اندلر Natural Selection in The Wild فقد احال فيه الى أكثر من 200 دراسة علمية لعمل التطور في البرية والمختبر. الاَن دعونا نعرض مثالا على تطور انزيمات جديدة عن طريق الطفرات المفيدة.
يوجد نوع من الطفرات يسمى بطفرة الإزاحة Frameshift Mutation وهي تغيير جيني يحدث بسبب إضافة أو حذف عدد من التيوكليوتيدات، لنأخد على سبيل المثال الكود الجيني ATTGTGGACA… عند ترجمة أي تسلسل جيني الى احماض أمينية فإن كل ثلاث نيوكليوتيدات (تدعى كودون) تترجم الى حمض أميني واحد. في هذا المثال مثلا: الكودون ATT يعطينا حمض أميني يدعى ile و الكودون GTG يعطينا الحمض الأميني val والكودون GAC يعطينا الحمض الأميني asp هذا يعني أن سلسلة الأحماض الأمينية المحصل عليها هي ile-val-asp، عند حدوث طفرة إضافة للكود الجيني فإن تسلسل الأحماض الأمينية يختلف كليا. مثلا لو تم حذف النيوكليوتيد T من بداية الكود فإنه سيصبح كالاتي: TTGTGGACA… وهنا ستتكون كودونات مختلفة وبالتالي أحماض أمينية مختلفة. الكودون الأول هو TTG يترجم لحمض أميني يسمى leu والكودون الثاني TGG يعطينا trp والكودون ACA يعطينا الحمض الأميني thr لتصبح لدينا سلسلة مختلفة من الأحماض الأمينية leu-trp-thr وذلك فقط بسبب طفرة حذف لقاعدة واحدة. واختلاف تسلسل الأحماض الأمينية يعطي اختلافا في بنية البروتين. وهذه هي طفرة الازاحة (إزاحة الإطار) باختصار.
أغلبية طفرات الإزاحة مضرة ولكن ليس جميعها كذلك. فطفرات الإزاحة يمكن أن تنتج سمات مفيدة للكائن الحي كما حدث مع جنس من البكتيريا يدعى Flavobacterium . حيث وجد الباحثون أن لهذه البكتيريا قدرة على هضم النايلون. وهي مادة صناعية تستعمل على نطاق واسع في صناعة الأقمشة وتقوية المطاط وصناعة المعدات الكهربائية وأجزاء السيارات … إلى غير ذلك. وهذه المادة ليست طبيعية وإنما صنعت عام 1935. وقبل هذا التاريخ لم يكن هناك وجود للنايلون في أي مكان في الطبيعة. وبم أن هذه البكتيريا لديها القدرة على تحليل النايلون فلابد وأنها طورت الاَلية اللازمة لذلك في أقل من أربعين عاما فقط. فكيف فعلت ذلك؟
حين ظهر النايلون بفعل البشر وفر مصدرا مهما للغداء بالنسبة لهذه البكتيريا، وبفعل حدوث طفرات في تسلسل من المادة الوراثية الخاصة بها (في البلازميد) تسبب ذلك في ظهور انزيمين جديدين الأول يدعى 6-AHA CDH والثاني يدعى 6-AHA LOH ويقومان بإدراج النايلون في مسار أيضي يمكن البكتيريا من تحليله والإستفادة منه. الانزيم الثاني نشأ عن طريق طفرة إزاحة، حيث حدث إدخال للقاعدة T داخل التسلسل الذي يشفر لهذا الانزيم والتي تدعى R-IIA ، وتسبب ذلك في تشكيل تسلسل من الأحماض الأمينية الجديدة التي أكسبت هذا الانزيم قدرته على تحليل النايلون (انظر الصورة الأولى في التعليقات)، وقد أدرجت القاعدة T بين A و G ليتكون الكودون ATG وهو كدون بداية الترجمة لهذا الانزيم الجديد.(المصدر 1 و 2)
وفي دراسة أخرى قام الباحثون بتعريض نوع اَخر من البكتيريا يدعى Pseudomonas Aeruginosa لضغوطات تطورية، حيت قامو بتقديم النايلون كمصدر وحيد للكربون والنيتروجين، وقد استطاعت هذه البكتيريا تطوير انزيمات جديدة لتحليل النايلون واتخاده كمصدر جديد للغداء بالرغم من أنها لم تكن تملك هذه الانزيمات قبل التجربة.(المصدر 3). وهذا يعني أن الانزيمات المسؤولة على تحليل النايلون لم تكون يوما موجودة عند البكتيريا، ولم تظهر إلا بعد أن صنع الانسان النايلون. وهذا دليل على قدرة الطفرات العشوائية على انتاج بروتينات جديدة ومفيدة.
المصدر 1: http://www.pubmedcentral.nih.gov/picrender.fcgi?artid=345072&action=stream&blobtype=pdf
المصدر 2: https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/7262074/
المصدر 3: https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC167468/pdf/612020.pdf